jeudi 20 septembre 2012

المفعول السحري للـ" الطاولة الوطنية المستديرة "

عندما جلست حول "الطاولة المستديرة الوطنية" في جامعة المجر وبالتحديد في مبنى كلية القانون والحقوق بالعاصمة بودابست وأمامي جلس رجال كانوا قبل عقدين من الزمن يتحاورون في نفس القاعة حول سبل الإنتقال الديمقراطي لصالح بلادهم وشعبهم، أحسست بأنني سافرت إلى الماضي البعيد لأشهد كيف تم تغيير نظام حكم دكتاتوري وسلطة استبدادية بدون إطلاق رصاصة واحدة ولو مطاطية!

كان لي شرف الجلوس مع ثلة من النخبة الهنغارية التي كانت في الحكم والتي التي ساهمت في مفاوضات دامت لأكثر من عامين بحثا عن التوافق في وضع قوانين التحول الديمقراطي السلمي عن طريق برلمان كان خاضعاً أنذك لدكتاتورية الحزب الواحد! والشيوعي الأوحد!

لقد تبادلنا أطراف الحديث لمدة فاقت الساعتين... كانوا معجبين بالثورة التونيسة ولم يبخلوا علينا بالمعلومات حول مراحل الإنتقال الديمقراطي التي مرت بها بلادهم والأخطاء التي وقعوا فيها وكيف تجاوزا الأزمات التي عصفت بمسارهم. لقد انتقلوا من عالم إلى عالم آخر دون أن يحدث أي خلل دستوري ولو للحظة واحدة، وقد لاحظت أن المجريين كانوا أنذاك يتعاملون بحضارة حتى في سلوكهم "الديكتاتوري"! وهم اليوم لا يزالون يتحاورون بكل رقي بحثا دوما عن التوافق للخروج من الأزمة السياسية والإقتصادية التي يمرون بها الآن وهو ما قد يهدد نتيجة الإنتقال الديمقراطي حتى بعد أكثر من عشرين عاما من الكفاح في مسار الإنتقال الديمقراطي السلمي.

لم أصدق أني كنت أمام نخبة ساهمت بالحوار والحوار فقط في سقوط عالم بكامله وبناء عالم جديد تراه وتشعر به منذ أن تطأ قدماك أرض مطار بودباست... بدأ التحول نحو الديمقراطية التي مهدت لهذا العالم الرائع الجديد عام 1987 وانتهى عام 1990 بنظام ديمقراطي انطلق ونجح في إيجاد تداول سلمي حقيقي على السلطة تم 3 مرات بين المعارضة والحكام القدماء الجدد في العقدين الماضيين.. لقد كان طريقاً خاصاً لم تسلكه أية دولة ديكتاتورية آنذاك ناهيك عن أنها كات شيوعية.

تحسرت حين تذكرت أنه في نفس العام ، أي عام 1987 جاءنا بن علي ووعد في بيانه المشؤوم بما تواعد وتوافق حوله الهنغاريون (المجريون) بصدق في نفس السنة ... ثم شرع بن علي وحزبه المنحل في إصلاحات مزعومة ونظم انتخابات وهمية انتهت ببلادنا بعد عقدين من الزمان إلى كوارث عديدة ومتعددة . بينما أصبحت المجر، البلد الذي هو في نفس المساحة ونفس عدد سكان بلادنا، قوة في وسط أوروبا لا يستهان بها ، وبناتج قومي خام يفوق ثلاثة أضعاف ناتجنا القومي... إنها العبقرية المجرية ذات 15 جائزة نوبل للعلوم و ثلاثة وخمسون ألف براءة اختراع بعد الثورة البيضاء. لقد حدثت معجزة التحوّل الديمقراطي المجريّة بالمفعول السحري لسلسلة لقاءات قوى المعارضة سُميت حينها "الطاولة المستديرة للمعارضة" ثم تحولت إلى"الطاولة الوطنية المستديرة". وكانت المعارضة الجديّة حينها وقبل التغيير بحوالي ثلاث سنوات قد استقطبت قوى اجتماعية شعبيّة من المثقفين وكتاب وشعراء وفنانين، مما ساعد في ازدياد تأثير وقوة الاتجاه الإصلاحي داخل الحزب الشيوعي الحاكم أنذاك.

ثم جرت الجولة الثانية "للطاولة المستديرة الوطنية  المجريّة" في إحدى قاعات البرلمان وبحضور رئيس البرلمان ورئيس الحزب الحاكم، وتم الاتفاق على تعديل الدستور، وقانون للأحزاب، والتحضير لإجراء انتخابات برلمانية حرة، وإعلان هدنة سياسية تنبذ أي عمل عنفي على أساس مواقف سياسية. وتواصل الحوار والحوار الوطني فقط للخروج من عنق الزجاجة وتجاوز الأزمة السياسيّة أنذاك والتي فرضتها سيطرة الحزب الواحد على دواليب الدولة ومراكز القرار.

وقد حاول بعض زعماء الحزب الحاكم وقتها تعطيل تلك الإجراءات والتملص من تنفيذها نظرا لتعارضها مع مصالحهم ومواقفهم الشخصيّة، وقد وصفت الصحافة حينها تلك المباحثات بأنها "سفينة تُبحر في مثلث برمودا السياسي" نظرا لصعوبة المرحلة وحساسية الموقف.

فما أشبه اليوم في تونس بالبارحة في المجر...

والدرس الأول الذي يمكن أن نستخلصه من تجربة المجر بالنسبة لمسار الإنتقال الديمقراطي في بلادنا، هو أن النخبة كانت تتعامل مع بعضها بكل احترام وبلا تناحر وبدون تخوين ... كانت تتعامل بمسئولية وطنية عالية وبأسلوب ديمقراطي مع عناصرها، وهذا فرض احترام المجتمع لها وجلب الدعم الخارجي الكبير واللامشروط للمجر.

أما الدرس الثاني الذي يمكن لنشطاء الثورة التونسية والنخبة السياسية أن يعوه، هو أنه يوما ما سيستطيع أحد خلفاء حزب التجمع المنحل حتما العودة للسلطة على أساس العملية الديمقراطية، إذ لا يمكن إقصاء أي كان عن المشاركة في العملية السياسية، شرط أن يقوم هؤلاء العائدون بتطوير أهدافهم ونظرتهم للديقراطية والحداثة، والالتزام بدولة القانون والذي ستفرضه مستلزمات الثورة و سيضع الدستور الجديد أسسه كما فعلت العائدة النخبة في المجر. فالحزب المجري المنبثق من الحزب الشيوعي الحاكم استطاع الدخول للبرلمان بشكل ديمقراطي حر بعد أربع سنوات من التغيير وحصل على أكثر من نصف أعضاء البرلمان، ومن بين خمس دورات برلمانية انتخابية تحصّل على أعلى المقاعد في ثلاثة منها وشكّل حكومات ائتلافية في لثلاث دورات.

عندما يكون التوافق والحوار هما الأساسان اللذان يبنى حولهما التغيير ، وعندما تتوفر حسن النية بين جميع الفرقاء ، وعندما تكون المصالحة والمصلحة الوطنية هي الهدف تكون هناك تجارب فريدة في العالم ...

 لهذا كانت تجربة المجر أو "ثورة المجر" فريدة من نوعها!  

فيا ترى كيف ستكون تجربتنا في تونس؟
هل ستولد العبقرية التونسية من رحم ثورة الياسمين بالحوار والتوافق؟
أم سنتيه في مثلث برمودا أو في صحراء سيناء كما تاه موسى مع بني إسرائيل لمدة تزيد عن 40 سنة حتى يفنى هذا الجيل الذي يسيطر فيه جيل طلبة السبعينات على الساحة السياسية، وهو جيل مع الأسف يعشق المناكفات السياسة والنزاعات المتواصلة.
أخشى ما اخشاه على تونس هو أن يبقى هذا الجيل حبيس تجربته الجامعية القديمة و لن يتمكن من تحسين أداءه السياسي لأنه فوجئ بالثورة ووجد نفسه يقود الساحة السياسية دون الإعداد اللازم! وربي يحسن العاقبة!

1 commentaires: