تونس أولا

فلا عاش في تونس من خانها * ولا عاش من ليس من جندها * نموت ونحيا على عهدها * حياة الكرام وموت العظام

إسكندر الرقيق

يعتبر اسكندر الرقيق من الكفاءات الشابة التي خرجت إلى النور من رحم ثورة الكرامة و ...

jeudi 20 septembre 2012

المفعول السحري للـ" الطاولة الوطنية المستديرة "

عندما جلست حول "الطاولة المستديرة الوطنية" في جامعة المجر وبالتحديد في مبنى كلية القانون والحقوق بالعاصمة بودابست وأمامي جلس رجال كانوا قبل عقدين من الزمن يتحاورون في نفس القاعة حول سبل الإنتقال الديمقراطي لصالح بلادهم وشعبهم، أحسست بأنني سافرت إلى الماضي البعيد لأشهد كيف تم تغيير نظام حكم دكتاتوري وسلطة استبدادية بدون إطلاق رصاصة واحدة ولو مطاطية!

كان لي شرف الجلوس مع ثلة من النخبة الهنغارية التي كانت في الحكم والتي التي ساهمت في مفاوضات دامت لأكثر من عامين بحثا عن التوافق في وضع قوانين التحول الديمقراطي السلمي عن طريق برلمان كان خاضعاً أنذك لدكتاتورية الحزب الواحد! والشيوعي الأوحد!

لقد تبادلنا أطراف الحديث لمدة فاقت الساعتين... كانوا معجبين بالثورة التونيسة ولم يبخلوا علينا بالمعلومات حول مراحل الإنتقال الديمقراطي التي مرت بها بلادهم والأخطاء التي وقعوا فيها وكيف تجاوزا الأزمات التي عصفت بمسارهم. لقد انتقلوا من عالم إلى عالم آخر دون أن يحدث أي خلل دستوري ولو للحظة واحدة، وقد لاحظت أن المجريين كانوا أنذاك يتعاملون بحضارة حتى في سلوكهم "الديكتاتوري"! وهم اليوم لا يزالون يتحاورون بكل رقي بحثا دوما عن التوافق للخروج من الأزمة السياسية والإقتصادية التي يمرون بها الآن وهو ما قد يهدد نتيجة الإنتقال الديمقراطي حتى بعد أكثر من عشرين عاما من الكفاح في مسار الإنتقال الديمقراطي السلمي.

لم أصدق أني كنت أمام نخبة ساهمت بالحوار والحوار فقط في سقوط عالم بكامله وبناء عالم جديد تراه وتشعر به منذ أن تطأ قدماك أرض مطار بودباست... بدأ التحول نحو الديمقراطية التي مهدت لهذا العالم الرائع الجديد عام 1987 وانتهى عام 1990 بنظام ديمقراطي انطلق ونجح في إيجاد تداول سلمي حقيقي على السلطة تم 3 مرات بين المعارضة والحكام القدماء الجدد في العقدين الماضيين.. لقد كان طريقاً خاصاً لم تسلكه أية دولة ديكتاتورية آنذاك ناهيك عن أنها كات شيوعية.

تحسرت حين تذكرت أنه في نفس العام ، أي عام 1987 جاءنا بن علي ووعد في بيانه المشؤوم بما تواعد وتوافق حوله الهنغاريون (المجريون) بصدق في نفس السنة ... ثم شرع بن علي وحزبه المنحل في إصلاحات مزعومة ونظم انتخابات وهمية انتهت ببلادنا بعد عقدين من الزمان إلى كوارث عديدة ومتعددة . بينما أصبحت المجر، البلد الذي هو في نفس المساحة ونفس عدد سكان بلادنا، قوة في وسط أوروبا لا يستهان بها ، وبناتج قومي خام يفوق ثلاثة أضعاف ناتجنا القومي... إنها العبقرية المجرية ذات 15 جائزة نوبل للعلوم و ثلاثة وخمسون ألف براءة اختراع بعد الثورة البيضاء. لقد حدثت معجزة التحوّل الديمقراطي المجريّة بالمفعول السحري لسلسلة لقاءات قوى المعارضة سُميت حينها "الطاولة المستديرة للمعارضة" ثم تحولت إلى"الطاولة الوطنية المستديرة". وكانت المعارضة الجديّة حينها وقبل التغيير بحوالي ثلاث سنوات قد استقطبت قوى اجتماعية شعبيّة من المثقفين وكتاب وشعراء وفنانين، مما ساعد في ازدياد تأثير وقوة الاتجاه الإصلاحي داخل الحزب الشيوعي الحاكم أنذاك.

ثم جرت الجولة الثانية "للطاولة المستديرة الوطنية  المجريّة" في إحدى قاعات البرلمان وبحضور رئيس البرلمان ورئيس الحزب الحاكم، وتم الاتفاق على تعديل الدستور، وقانون للأحزاب، والتحضير لإجراء انتخابات برلمانية حرة، وإعلان هدنة سياسية تنبذ أي عمل عنفي على أساس مواقف سياسية. وتواصل الحوار والحوار الوطني فقط للخروج من عنق الزجاجة وتجاوز الأزمة السياسيّة أنذاك والتي فرضتها سيطرة الحزب الواحد على دواليب الدولة ومراكز القرار.

وقد حاول بعض زعماء الحزب الحاكم وقتها تعطيل تلك الإجراءات والتملص من تنفيذها نظرا لتعارضها مع مصالحهم ومواقفهم الشخصيّة، وقد وصفت الصحافة حينها تلك المباحثات بأنها "سفينة تُبحر في مثلث برمودا السياسي" نظرا لصعوبة المرحلة وحساسية الموقف.

فما أشبه اليوم في تونس بالبارحة في المجر...

والدرس الأول الذي يمكن أن نستخلصه من تجربة المجر بالنسبة لمسار الإنتقال الديمقراطي في بلادنا، هو أن النخبة كانت تتعامل مع بعضها بكل احترام وبلا تناحر وبدون تخوين ... كانت تتعامل بمسئولية وطنية عالية وبأسلوب ديمقراطي مع عناصرها، وهذا فرض احترام المجتمع لها وجلب الدعم الخارجي الكبير واللامشروط للمجر.

أما الدرس الثاني الذي يمكن لنشطاء الثورة التونسية والنخبة السياسية أن يعوه، هو أنه يوما ما سيستطيع أحد خلفاء حزب التجمع المنحل حتما العودة للسلطة على أساس العملية الديمقراطية، إذ لا يمكن إقصاء أي كان عن المشاركة في العملية السياسية، شرط أن يقوم هؤلاء العائدون بتطوير أهدافهم ونظرتهم للديقراطية والحداثة، والالتزام بدولة القانون والذي ستفرضه مستلزمات الثورة و سيضع الدستور الجديد أسسه كما فعلت العائدة النخبة في المجر. فالحزب المجري المنبثق من الحزب الشيوعي الحاكم استطاع الدخول للبرلمان بشكل ديمقراطي حر بعد أربع سنوات من التغيير وحصل على أكثر من نصف أعضاء البرلمان، ومن بين خمس دورات برلمانية انتخابية تحصّل على أعلى المقاعد في ثلاثة منها وشكّل حكومات ائتلافية في لثلاث دورات.

عندما يكون التوافق والحوار هما الأساسان اللذان يبنى حولهما التغيير ، وعندما تتوفر حسن النية بين جميع الفرقاء ، وعندما تكون المصالحة والمصلحة الوطنية هي الهدف تكون هناك تجارب فريدة في العالم ...

 لهذا كانت تجربة المجر أو "ثورة المجر" فريدة من نوعها!  

فيا ترى كيف ستكون تجربتنا في تونس؟
هل ستولد العبقرية التونسية من رحم ثورة الياسمين بالحوار والتوافق؟
أم سنتيه في مثلث برمودا أو في صحراء سيناء كما تاه موسى مع بني إسرائيل لمدة تزيد عن 40 سنة حتى يفنى هذا الجيل الذي يسيطر فيه جيل طلبة السبعينات على الساحة السياسية، وهو جيل مع الأسف يعشق المناكفات السياسة والنزاعات المتواصلة.
أخشى ما اخشاه على تونس هو أن يبقى هذا الجيل حبيس تجربته الجامعية القديمة و لن يتمكن من تحسين أداءه السياسي لأنه فوجئ بالثورة ووجد نفسه يقود الساحة السياسية دون الإعداد اللازم! وربي يحسن العاقبة!

jeudi 6 septembre 2012

مصيرنا ومستقبل ثورتنا بين "إكبس" و " إرخف"

مصيرنا ومستقبل ثورتنا بين "إكبس" و " إرخف"

بقلم إسكندر الرقيق
ناشط سياسي
وخبير في الإقتصاد والتخطيط الإستراتيجي


متأخرة وربّما في غير وقتها - وكان من المفترض أن تكون الحكومة في غنى عنها لو هي عرفت منذ البداية من أين تبدأ وفعلت بجدية آليات العدالة الإنتقالية منذ الوهلة الأولى- تلك هي الحملة التي أعلن عنها شباب حركة النهضة ولجان حماية الثورة الأشاوس مؤخرا للدفع نحو سياسة حكوميّة أكثر حزم وصرامة في التعامل مع مخلّفات النظام البائد.

ولئن كان يُستشف من عنوان هذه الحملة "اكبس" معاني كثيرة، فإنّ رسالتها غير مشفّرة ومدلولها شامل عام وصل لكافة القطاعات والميادين. إذ أنّ هذه الحملة تعتبر اعترافا واضحا بضعف مردوديّة الحكومة وربّما حتى فشلها في إدارة ملفات المحاسبة والعدالة الإنتقالية التي مازالت تتراكم على مكاتب القضاة والمسؤولين. وقد أراد القائمين عليها تصحيح المسار ولفت الانتباه وتحفيز إرادة المحاسبة والتطهير التي يبدو أنّها خبت في نفوس حكّام الترويكا عموما وقيادات حزب الأغلبية الحاكم على وجه الخصوص. فهل نحن في حاجة اليوم فعلا وفي هذه المرحلة بالذات إلى حملة من هذا النوع وبهذا العنوان الذي يحمل بين طيّاته الكثير من المرامي والمعاني؟؟

هل نحن بحاجة إلى "اكبس" وبالتالي الاعتراف بغياب الإرادة سابقا في "الكبس" أي محاسبة الفاسدين و"الكبس" في إدارة الشأن العام؟ أم نحن في حاجة إلى التوافق والتشاور حول آليات "الكبس" وطرقها ومنهجها الشفاف الذي يقتضي لزاما وجود نيّة صادقة لإرساء العدالة الإنتقالية بدون حسابات ضيقة، وننتهي بمصالحة وطنية شاملة ننطلق بعدها للبناء ولم الشمل ، بحيث لا تستغل "إكبس" لأغراض حزبية وانتخابية أو تكون سيفا مسلطا على الرقاب يستعمل لإدخال المخالفين في الرؤى لبيت طاعة الحكم .

ولاشكّ أنّ من أهداف "اكبس" في هذا السياق أن تظهر الحكومة استفاقة جدّية من غفوتها إزاء عديد المسائل والقضايا من قبيل التعجيل بإجراءات العدالة الانتقاليّة المنشودة، ومزيد ضبط الخروقات الأمنيّة ومحاسبة الفاسدين القدامى والمفسدين الجدد الذين يريدون جرّ البلاد إلى المجهول. ولـ"اكبس" هنا مشمولات كثيرة تستدعي مجهودات كبيرة، منها:
"اكبس" على ناهبي أموال الشعب، وقاتلي شهداء الثورة..
"اكبس" على المتهربين من الضرائب والآداءات البلديّة ..
إكبس على العابثين بالبيئة والأمن بأصنافه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والجريمة المنظمة...
إكبس على ظاهرة العنف السياسي والتسلط الدعوي والمذهبي والحركي داخل المساجد وفي الفضاءات الثقافية والسياسية...
"اكبس" على سلوكات التقاعس في العمل لاسيما ظاهرة التسيب الإداري والغش بكافة أنواعه..
إكبس على الإحتكار والتهريب والإعتصامات العشوائية والإضرابات اللاقانونية...
"اكبس" على القرارات المتسرعة والاعتباطيّة والخطابات العفويّة والشعبويّة..
ولـ"اكبس" دون شكّ مشمولات أخرى عديدة.. ولكن هل يقف الأمر فقط عند "الكبس"؟؟
أوليس لـ"إرخف" أيضا نصيب من الإجراءات الحكوميّة المطلوبة في المرحلة الحالية؟ أولسنا في حاجة إلى تيسير بعض الأمور والممارسات والإجراءات ليكون الآداء الإداري والجماعي والفردي أكثر فاعليّة ومردوديّة؟؟

نحن بحاجة أيضا بالتوازي مع "اكبس" إلى "إرخف".. نعم "إرخف" وبكل حزم!!

"إرخف" للقيود المسلطة على الاقتصاد والإجراءات الإداريّة المعقّدة والقوانين المقيّدة للمصالح، فتحرير الاقتصاد يقتضي التسهيل في كلّ القيود والمعرقلات وتبسيط الإجراءات. إذ يجب على حكومتنا أن تعي أن معالجة الفقر تتمّ من خلال توسيع وتحرير الأسواق، وتسهيل المعاملات في هذه الأسواق، وزيادة الإنتاج والإنتاجيّة، والشّغل والتّشغيل، والإستثمار والرّبح.
يجب على حكومتنا الموقرة والمؤقتة أن تفهم أن الإستثمار لا ينتعش في ظل العراقيل والتعقيدات التي تحده وتضيق عليه، وهنا تأتي "إرخف" لتقوم بمفعولها السحري في الإقتصاد...

وإننا اليوم نلاحظ أن سوقنا ليست مؤهلة لاستيعاب الطّلب والإنتاج الإضافيّ لأن هناك معوقات إدارية وقوانين مكبلة وإجراءات مطولة تعطّل نموه وتطوره.
وستكون "إرخف"  هي كلمة السر لإزالة هذه العراقيل والتّضييقات أمام المبادرة والإستثمار والنّشاط الإقتصاديّ بصفة عامّة.
ولا يكون ذلك إلا بقوانين استثنائية وبإعلان حالة طوارئ إقتصادية تعتمد الكلمة السحرية "إرخف"..

يا سادتي أصحاب القرار:
"إرخفوا" المنظومة المتسلّطة في الإدارة البيرقراطية العقيمة..
إرخفوا" قيود الديوانة والجمارك وإجراءاتها الطويلة والمعقدة..
إرخفوا" من العقليات المكبلة والمعطلة لمصالح الآخرين..
"إرخفوا" في منظومة احتكار السلطة والمعلومة والقرار، في عهد التكنولوجيات الحديثة ، إذ لا مكان لسجن المعلومات والمعطيات والأرقام والاحصاءات..
"إرخفوا" في عقليّة التعاطي والتعامل مع المواطن ، فنحن اليوم في حاجة إلى تحرير القيود لفتح أفق الإبداع وتطوير البلاد والعباد..

واعلموا أنه لا توجد "اكبس" بدون "إرخف" ولا "إرخف" بدون "اكبس" ولتكوني يا حكومتنا المؤقتة بينهما قواما..  لا تكوني ليّنة فتُعصري، ولا تكوني يابسة فتُكسري... فتونس ومستقبلها هو بين "إكبس وإرخف"...

وسوف نطلق حملة "إرخف" في ثورة على القوانين والإجراءات العقيمة التي فصلت زمن الإستبداد على مقاس بن علي وعائلته وأزلامهم لحكم رقاب العباد والتحكم في مصير البلاد... فانتظرونا...